هاف بوست عراقي ـ محمد زكي ابراهيـم
يتحدثون عن زمن جميل تصرمت أيامه، وذهبت سنينه. عرفه الناس فأحبوه، وخبرته العامة فاطمأنت إليه. جرت الأمور فيه بسلاسة، وتوالت الحوادث دونه بهدوء. فلا ألم ولا أذى ولا حزن ولا عدوان ولا فقر ولا دموع.. ألخ.
كان في نظر هؤلاء زمن المعجزات. فلم يشهد تراجعاً في الثقافة ولا انحداراً في العلوم. ولم يأفل فيه نجم الأدب، أو ينحط قدر الفن. وكان الجميع فيه فرحين مستبشرين، راضين وشاكرين!
حتى الأغاني التي وضعت فيه لم تخرج عن هذا التوصيف. فهي جميلة ومعبرة. ومازال الناس يستمعون إليها بشغف، كلما هاج بهم الشوق، أو استبد بهم الحنين، أو طوحت في نفوسهم الذكرى!
وفي مقابل هذا الزمن الساحر الحافل بالفرح والمتعة والإثارة، يقف زمننا الحاضر بكل ما فيه من آلام ومتاعب وتراجعات. فهو في نظرهم قبيح ردئ، لا متعة فيه ولا ذوق ولا طعم ولا رائحة!
وبحسب هذه المقارنة فإن الأخير، وهو الزمن الذي نعيشه، خال من كل مظاهر الجمال. مفتقر لأبسط مقومات الرفاهية. عار عن جل أشكال الحضارة.
وليس الأمر مرتهناً بالعراق وحده، حيث يأخذ الأمر فيه منحى سياسياً في الغالب، وحيث يتزايد عدد السكان فيه بطريقة فظة. لكنه أصبح سمة غالبة على عموم بلادنا الشرقية.
وإذا ما أخذنا بهذه النظرية، فإن الحياة تسير من سيئ إلى أسوأ، وتنحدر من قبيح إلى أقبح. فلا تتقدم ولا تتغير ولا تشهد تحولاً في أي اتجاه.
هذا الأمر يخالف منطق التاريخ جملة وتفصيلاً، ويناقض قواعد الحقيقة قولاً وفعلاً. فلا يمكن أن تسير المجتمعات البشرية نحو الوراء، مهما كانت الظروف. ولا يمكن أن تتقهقر الأمور إلى أسوأ ما كانت عليه، في أي حال من الأحوال. وإذا كان ثمة تغييرات كبرى قد حدثت في عموم المجتمعات الشرقية، وغيرت من نمط العيش فيها، فهي في الغالب أضفت على الحياة فيها سمة النعومة والسلاسة واليسر، وقللت المعاناة والمشقة والفقر، ومثل هذه الأمور لا تترك ندوباً غائرة في الذاكرة كما كانت تفعل من قبل.
وكيفما تبدو المشاكل الطافية في عصرنا هذا، فهي أقل حدة مما كانت عليه في زمن جميل سابق. وأدنى قسوة مما وصلت إليه في عصر رائع خال. أما الإنجازات التاريخية والتقنية والثقافية فهي تشهد بوضوح على تفوق زمننا المر.. هذا. وأوضح الأمثلة على ذلك ما شهده العالم من ثورات في التعليم والصحة والعمران والطاقة والنقل والاتصالات.
ولكن الحنين إلى الماضي، هو جزء من تكويننا النفسي والاجتماعي. ولا نستطيع التخلي عنه حتى لو اتخذت الأمور مساراً معاكساً. وهو يقف شاهداً على نوع من الانكسارات التي شهدتها الشعوب بسبب الهيمنة الغربية، وتخلخل موازين القوة، والفجوة التقنية، وغير ذلك من الفوارق الحضارية بين الشرق والغرب.
ومع كل هذه المؤشرات يبقى الحاضر، الذي سيتحول إلى زمن جميل آخر في عيون الجيل القادم، أكثر نضارة وملاحة وإمتاعاً من أي وقت مضى في بلادنا، والبلدان الشرقية الأخرى، وربما في العالم بأجمعه أيضاً.
لقراءة المقال باللغة الانكليزية أنقر على الايقونة (يمين المقال)
تابع صفحتنا في فيسبوك مصادر: وكالات – تواصل اجتماعي – رصد وتحرير و نشر محرري الموقع وكالة تنشر النصوص بلا قيود.. المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مصدرها اكتب لنا: [email protected] |