– هف بوست عراقي (الحقيقة بلا فلتر):
عبدالله بشارة
أستطيع التأكيد أن الغالبية الكاسحة من الشعب الكويتي لم تكن على علم بواقع العلاقات بين العراق والكويت ومحتوياتها، من طموحات تتلون بين رقة المفردات وبشاعة المطلوبات التي يريدها العراق، المتمثلة في اتساع امتداداته نحو بحر الخليج، كان ذلك في بداية الستينيات من القرن الماضي.
وقد تسيّد هذا الواقع العلاقات بين البلدين خلال ثلاثين سنة، ابتُدئت مع الانقلاب البعثي على نظام قاسم، ثم حكم عبدالسلام عارف وأخيه عبدالرحمن، وصولاً إلى انقلاب البعث عام 1968، وانتهاء بالغزو الصدامي.
كنت مسؤولاً في مكتب الشيخ صباح الأحمد (وزير الخارجية)، الذي تحمّل عبء التعامل مع العراق خلال تلك الفترة، تحمّل فيها غلاظة الضغط، ووحشية التبريرات، وسماجة المفردات، كنت فيها حاضراً سلسلة اللقاءات، متخوّفاً من احتمالات انفجار صبر الشيخ صباح، فقد كان أكثر المسؤولين الكويتيين تفاؤلاً، وأحرصهم على الحفاظ على التهدئة، وتطويق ما يدور بسرعة، لكي لا تصل إلى مسامع الكويتيين..
ويمكن القول إن بعض هؤلاء السفراء العراقيين يعانون من إحراجات، ومن تخوفات الانفجار، وكان سفير الكويت في بغداد محمد أحمد الحمد، العارف بالتفاصيل، يبعث إشارات غير مشجعة.
كان السفير العراقي في بداية الستينيات، طيب العشرة وحسن التعبير، وقوراً في كلامه، وهادئاً في سلوكه، وكان يتخوّف من المواجهات على الحدود، وكنا على أمل أن يتحقق النجاح عبر المفاوضات، التي كانت تدور حول أعمال اللجنة المشتركة لترسيم الحدود، كان ذلك أمل الكويت، بينما كان العراق يوظف اللجنة لكسب الوقت، وفي الوقت نفسه يمارس ضغوطاته السياسية.
كان ذلك في عصر الأخوين العارف، ومع البعث في 1968، كانت أهداف العراق تتضخم مع شعارات حزب البعث «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة»، موظفاً التآخي والمصير الواحد وتلاقي الأهداف والمخاوف المشتركة من الاستعمار وأذنابه للاعتداء على الخليج، وتأكيد الدور العراقي في مواجهتها.
وظل الشيخ صباح الأحمد متحمّلاً طروحات العراق البعثي، معزّزاً التواجد الكويتي في الحضن العربي، ومسانداً الجامعة العربية في أولوياتها، وفوق ذلك، انشغاله لتحقيق التضامن العربي، ومتبرعاً بجهده ووقته للإسهام في إزالة الخلافات العربية.
كان الشيخ صباح مقتنعاً بالتواجد الكويتي في بطن القضايا العربية، ويعتبره ضماناً عربياً لأمن الكويت، وكان فوق ذلك حريصاً على الابتعاد عن الدول الكبرى، منتقداً تجاهلها لحقوق شعب فلسطين، وملحاً عليها في الاعتراف بهذه الحقوق المتمثلة في قيام دولة فلسطين.
ومع تصاعد موقع صدام حسين ليصبح رئيساً، استطاع الشيخ صباح التكيّف مع أسلوب صدام المتعالي في أهدافه، والمبشر بما يتمتع به العراق من مكانة وموقع في الخليج، وريادة عربية واستثنائية تاريخية.
ومع الحرب العراقية – الإيرانية تحوّلت الكويت إلى امتداد جغرافي للعراق، في تسهيلات مختلفة في الفضاء وعلى التراب وفي البحر، ولم يكن الشعب الكويتي مطلعاً عليها، وإنما كانت انعكاساً لإستراتيجية كويتية في دعم العراق، في جميع المسارات، ووصل التعاون إلى نزول الطائرات الحربية العراقية في مطار الكويت الدولي، ومع تولّي الشيخ صباح رئاسة اللجنة العربية للدفاع عن مواقف العراق، الذي لم يهتم بأعضاء اللجنة، وركّز على تواجد الشيخ صباح، مكتفياً برئاسته للجنة، مبعداً الآخرين عن أعبائها، ملاحقاً الشيخ صباح لأشغالها.
جاء دعم الكويت للعراق من منطلقات متنوعة، وإملاءات الجوار السياسية، وتوقعات التقدير والاعتراف بما تحملته الكويت، والتكيّف مع تمكين العراق للصمود، والتفاؤل بأن تشهد الحقبة بعد الحرب علاقات ثنائية، تأخذ في تقديراتها الدور الكويتي في انتصار العراق.
كان هذا الأمل متواجداً مع العارفَينِ بحجم الدور الكويتي من أبناء الوطن ومن أهل الخليج.
مع نهاية الحرب، يذهب الشيخ صباح إلى بغداد مهنئاً ومباركاً، كان ذلك في فبراير 1990، وهناك جاءت المفاجأة، فقد عرض سعدون حمادي، الوزير البعثي المؤثر، تقديراً للدور الكويتي في دعم موقف العراق، وحرصاً من حكّام بغداد على الانفتاح بالعلاقات بين البلدين، والحفاظ على المستوى الذي وصلت إليه خلال الحرب، خريطة عراقية لترسيم الحدود بين البلدين، تقدّم فيها الكويت قاعدة بحرية في فيلكا وتواجداً في بوبيان، وأم المرادم، وشريطاً بحرياً بمحاذاة بوبيان، وطريقاً برياً من ميناء الشعيبة إلى البصرة، ملحقاً للسيادة العراقية، لا تتواجد فيه السلطة الكويتية، فضلاً عن عمالة عراقية وتسهيلات مالية، فينفجر الشيخ صباح غاضباً، مستغرباً فظاعة المحتويات، وجرأة سعدون حمادي في تقديمه الخريطة كمكافأة للدور الكويتي، وينهي اللقاء، ثم يرسل وكيل الوزارة السيد سليمان الشاهين، في شهر أبريل 1990، حاملاً رسالة الكويت، التي تجسّد ردها على أوهام سعدون حمادي وأحلام صدام فيها، رفضاً كاملاً لهذا الاستهتار بكرامة الكويتيين والاستخفاف بوطنيتهم، والاستعباط بذكائهم، ومنها يتحول الحوار إلى مواجهة بين البلدين.
رسمت مذكرة العراق إلى الجامعة العربية، في منتصف يوليو 1990، خريطتها، ويتأزم الوضع وسط توسطات عربية واستغرابات عالمية، وينفجر الوضع بالغزو في الثاني من أغسطس 1990.
وانتهى بذلك فصل العذاب الطويل، الذي تحمّل الشيخ صباح مراراته واستفزازاته.
ماذا عن المستقبل؟
لا بد من النهوض بواقع العلاقات، فهذا ما يريده الكويتييون جميعاً، لكن المطلوب من الجانب العراقي أن يدرك أن الاطمئنان الكويتي لن يتحقق ما لم يكن التعامل قائماً على حقيقة أن العراق والكويت بلدان عربيان متجاوران ومتعاونان لما يفيد الشعبين وأبناء الخليج، مع تأكيد حسن الجوار مع الجميع، وتعميق القناعة بأن الشعب الكويتي بنى بلداً عمره ثلاثة قرون عبر كفاح، قادته الهمّة الكويتية للتآلف مع البحر، وتوفير القدرة على الانتصار من مخاطره، ولجم تهديداته، كل ذلك مكّنهم من تشييد حياة مرهقة، لكنها من نتاج تضحيات ومغامرات وفدائية حياتية لتأمين المعيشة.
في عام 1950، ذهبت إلى البصرة، مع شقيقي المرحوم النوخذة عيسى بشارة، وقضيت أسبوعاً، شاهدت فيه مفاجآت مقاهٍ على الشط، تتواجد فيها العائلات، رجالاً ونساء، وحياة مريحة وتسهيلات حياتية، ووسائل مبهجة وترفيهية، كانت مشاهد قريبة من الجنة، وهنا أريد التأكيد على أننا جيران بتاريخ مغاير وتقاليد مختلفة ووجدان متناقض وهوية متباينة، فهويتنا صاغتها بحور وصحارٍ، لم نتعرّف على حياة الأنهر ولا البحيرات، وشربنا مياه شط العرب بكل ما فيها من أضرار، مرتاحين وراضين بما لنا، وشيدناً نظاماً، ووفرنا الاستقرار مع التواصل والترابط، ونحرص على علاقات تعكس الثقة، وتؤمن الاستقرار، وتخدم الخصوصية وواقع الجوار، وتسعى لتعاون ثنائي وانفتاح اقتصادي وترابط اجتماعي، ويتم كل ذلك باطمئنان ثنائي يخدم الحدود والكيان ويقدس مناقب حسن الجوار.
هذا جوهر توقعات الكويتيين من العراق اليوم..
نحن على وعي بواجبات الجوار وضرورات تميز العلاقات، ونطالب بإصرار على تكثيف الاستثمارات واتساع المشاورات، وتصعيد الزيارات المتبادلة، والأهم حوارات ثنائية حول واقع الإقليم ومخاطر التوترات والتعاون لصدها، ونؤمن بتميز الترابط الثنائي، والأهم أن يدرك الاخوة في العراق أننا لم نكن يوماً لا فرعاً ولا شريكاً ولا مستفيداً من مباهج العراق وما يملكه من خيرات، وربما بأحجام متواضعة، وأكثر ما يغضبنا تزوير التاريخ واختراع روايات لم تحدث حول ثنائية العلاقات، ولكي نحقق ما نتمناه لا بد من صفاء في المناخ الثنائي، لكي ننطلق نحو دروب التفاهم الشامل في كل جوانب الحياة.
أستوحي هذا الأمل من حديث صريح للسيد حيدر العبادي، في مقابلة مع صحيفة الجريدة الكويتية بتاريخ 26 مايو 2024، يتمنى فيه تأسيس شامل لعلاقات مستقبلية، خالية تماماً من الأوهام والتأكيد على انطلاقها نحو تعميق الفوائد للبلدين، وفي جميع المسارات
لقراءة المقال باللغة الانكليزية أنقر على الايقونة (يمين المقال)
تابع صفحتنا في فيسبوك هف بوست عراقي تنشر النصوص بلا قيود.. المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مصدرها اعلان: هل تريد انشاء موقعك الرقمي المكتبي، وكالتك الخبرية، موقع لمركزك البحثي.. يمكن ذلك وبأرخص الأسعار.. الاتصال على الرقم: 0031613350555 |